ما هي الماسونية؟
الماسونية حركة فكرية قديمة تُحيط بها هالة من الغموض، تأسست في القرن الثامن عشر على يد نقابات البنّائين في أوروبا، وتحولت لاحقًا إلى تنظيم أخوي يهدف إلى تحسين الذات من خلال رموز وطقوس رمزية. رغم ارتباط اسمها بالمؤامرات والسيطرة العالمية، تكشف الحقائق التاريخية عن أهداف فلسفية وأخلاقية، لا سياسية.
الماسونية: هل الحقيقية مملة أكثر من الخيال؟
كلما جلست مع الأصدقاء لشرب القهوة (التي لا أشرب غيرها،) لا بد أن يتسلل حديث عن نظرية المؤامرة والماسونية: مصافحات سرّية، تحكم بالعالم، صداقة خفية مع المتنورين Illuminati، وربما لقاءات أسبوعية في أقبية لا يعرف طريقها إلا المدعوين. منشورات X (تويتر سابقًا) تصرخ بمؤامرات كونية، واليوتيوب يعرض فيديوهات بإضاءة خافتة وصوت يهمس في أذنك كالوسوسة قائلاً: “لن تصدق من يدير العالم فعلاً”.
وأنا، كعادتي، فضولي قادني، كقط وجد صندوقاً قديماً مفتوحاً، لم أستطع مقاومة القفز داخله. لا لأني توقعت شيئاً جديداً، بل لأن الصناديق الغامضة دائمًا تُخفي عوالم غير متوقعة. كنت واثقاً أنني سأجد بعض الغبار ونظريات مكررة، لكن بدلاً من ذلك وجدت نفسي أسقط في حفرة عميقة مليئة بالرموز والقصص، لا أدري هل هو واقع أم حلم – ولم أجد الأرنب… لكني بالتأكيد وجدت القط الخفي تشيشير.
الأساطير: وجبة المؤامرات المفضلة
دعونا نبدأ بما يُقال:
-
التحكم بالعالم؟
يتكرر الحديث عن “سيطرة ماسونية على الحكومات”، لكن عندما قرأت في “مختارات الماسونية” Anthology of Freemasonry، وجدت أن كل القصة بدأت عام 1717، عندما اجتمع 4 محافل بنّائين Mason Lodges في لندن ليكوّنوا أول محفل كبير.
-
المتنورون؟
آدم وايزهاوبت أسس جماعتهم فعلاً كجماعة منفصلة عن الماسونية عام 1776، وفعلاً تواصلوا مع الماسونيين، لكنهم اختفوا خلال 10 سنوات. لو كانت لديهم خطة للسيطرة على العالم، فهم فشلوا فيها بسرعة قياسية!
-
المصريين القدماء؟ الصليبيين؟
لا أنكر أن الارتباط بين الرموز مثير للتفكير: العين التي ترى كل شيء على شكل هرمي، المثلثات، والطقوس. لكنها أشبه بلغة رمزية، يُعتقد أنها استُعيرت لاحقاً من ولع الأوروبيين بمصر وغموضها، خاصة في عصر النهضة. أما بالنسبة لحراس المعبد، فقد انحلت جماعتهم عام 1312. هناك فرضيات غير مؤكدة أن أفكارهم ألهمت البنائين الأوائل خاصة من الفارين من الحراس إلى اسكتلندا. لكن لا يوجد ما يثبت أي من هذه الفرضيات غير أنها، مع الرموز المستعارةـ أقرب للديكور الفلسفي منها للخطة الكبرى.
لكن… هل الماسونية مجرد نادي للرجال؟
الحقيقة أن ما وجدته في المصادر لم يكن “مؤامرة”، وأيضاً ليس نادي اجتماعي ممل.
الماسونية تبدو وكأنها خليط من:
-
تحسين الذات،
-
بناء الأخلاق،
-
فلسفة فيها شيء من الصوفية الأوروبية،
-
وأطنان من الرمزية.
الدرجات الماسونية (مبتدئ، زميل، خبير) لا تبدو – في المراجع – كسلّماً نحو السيطرة، بل أقرب لدورة تطوير ذاتي مغطاة بطقوس رمزية. تخيل الماسونية كنقابة لمتخصصي التنمية البشرية!
أكثر ما جذبني هو الرموز.
-
الحجر الخام: الإنسان قبل أن يبدأ العمل على نفسه، وتشكيل ذاته.
-
المربع والبوصلة: توازن داخلي وخارجي، نوع من “ضبط الزوايا” في شخصية الإنسان.
-
العمودان: ثنائية الحياة – القوة والرحمة، الظل والنور.
أما كتاب ألبرت بايك “الأخلاق والعقيدة”، فكان أشبه برسالة فلسفية من القرن التاسع عشر تدعو إلى التفكير، لا التلقين. مزيج من التنوير الروحي، الدعوة إلى الاستقلال الأخلاقي، والإيمان بفكرة كونية غير مغلقة على ديانة واحدة، وإنما ترك تفسير الصانع الخالق بحسب كل ديانة.
السرية: السبب الحقيقي وراء كل هذا؟
يقال أن الناس تفهم الشخص المزعج، المتكلم، كثير الحركة والضوضاء، ولكنهم لا يفهمون الصامت المنعزل. الصمت يولّد القصص، والقصص تتحول إلى أساطير.
والمحافل الماسونية بالتأكيد لا تتحدث كثيراً، وليست شفافة دائماً، ومعظم الطقوس بقيت سرية وطي الكتمان. وهذا بالضبط ما يغذي الشكوك ويصنع الحكايات.
وهناك أسباب أيضاً تغذي ارتباط نظرية المؤامرة والماسونية. فمثلاً قصة ويليام مورجان، الذي اختفى بعد أن هدد بكشف أسرارهم عام 1826، فتح اختفائه باباً لكل السيناريوهات – هل أخفوه؟ هل دفع الثمن؟ هل…
وهناك أيضاً أن العديد من الأشخاص النافذين في العالم هم أعضاء في الماسونية، سواء في السياسة أو الاقتصاد، مما ساهم بشكل كبير في القول أن الماسونيين يتحكمون في العالم. وإن كان هذا يرجع بشكل كبير لكون العضوية أساساً تشترط طبقة ومهارات وقدرات معينة، فليس من الغريب أن يكون نفس الأشخاص أصحاب نفوذ.
لكن معظم الأدلة تميل إلى أن هذه القصص كانت إما مضخمة سياسياً أو مفهومة خارج سياقها. الجهات الدينية، الأحزاب السياسية، الصحف والإعلام… كل طرف استخدم غموض الماسونية كأداة له. والأسطورة لا تحتاج إلى أكثر من مساحة فارغة وقارئ متحمّس – والبحث عن التشويق والغموض.
ما خرجت به من المحفل الماسوني
وأنا أتسلل خارجاً من الكتاب وأقفز من الصندوق، لم أجد من يلحقني ليمنعني… لم أجد قوةً خفية تهمس في أذن زعماء العالم، ولا نادياً يقدم القرابين كما تقول الروايات.
هي أقرب إلى “أخوية فكرية” نشأت من نقابات البنّائين Freemasons، واتخذت الكثير من الرموز في هيكلها، حتى أصبحت مادة خصبة للغموض والأساطير (التي أحبها).
ولكن… يبقى هناك بعض الغموض.
فلسفة ألبرت بايك، الرموز، والتشابهات مع المدارس الباطنية، كل هذا يترك باباً صغيراً مفتوحاً للخيال.
هل الماسونية حقيقية؟ أم أسطورة عصرية؟
ربما هي الاثنان.
وحتى أستكشف ذلك أكثر، أدعوكم أن تطرحوا الأسئلة والبحث عن الإجابات بدلاً من مشاهدة قنوات اليوتيوب التي تسعى – فقط للمشاهدات عن طريق اعطاء المشاهد ما يود سماعه.
وقبل أن تتهم أي شخص بأنه ماسوني… تأكد من أنه يعرف على الأقل كيف يشرح الفرق بين المربع والبوصلة.